بعد ساعات قليلة من بدء سريان وقف إطلاق النار، وفي الطريق إلى أقصى جنوب لبنان، وفيما نستمع إلى إذاعة «النور»، التي تنقل رسائل مراسليها من الجنوب، حول عودة النازحين إلى قراهم وبيوتهم، وهم يرفعون رايات المقاومة وصور شهدائها، ينقطع صوت «إذاعة المقاومة»، وتنطلق رسالة من نوع آخر: «مستمعينا الكرام... هنا صوت الجنوب... يعود إليكم قريباً». على الفور، تطلبُ جدّتي - التي عاشت سنوات الاحتلال كاملة في الجنوب - منّا السكوت، وتميل برأسها نحو جهاز الراديو، وتستمع بهدوء: «مبلا... هيدي هيي... إذاعة لحد». ترافقنا هذه الرسالة الصوتية التي تخترق البثّ الأصلي بين الحين والآخر، طوال الرحلة إلى القرية. ومع مشاهد الدمار التي تتزايد كلما تقدّمنا في عمق الجنوب، كان يعلو صوت مذيع الرسالة شيئاً فشيئاً، وكأنه يحاول تذكيرنا بأننا نقترب أكثر مما كان يُعرف بـ«الشريط المحتلّ»، الذي حكمته «ميلشيا لحد» العميلة، وأدارت انطلاقاً منه الإذاعة التي انكتم صوتها منذ التحرير عام 2000. في المقابل، يخرج من مذياع السيارة صوت المراسل الجنوبي المعروف، علي شعيب، وهو يَروي من على أرض الخيام وكفركلا، كيف وصل أبناء القرى الحدودية إلى بلداتهم بعد دقائق قليلة من دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، فيما قوات العدو ودبّاباته لا يزالان متواجدين في المنطقة. هكذا، بدا المشهد بين زمانين: زمان الاحتلال وزمان المقاومة.
ربّما تكون الدولة أمام فرصة سانحة لمعالجة أزمة الثقة بين الجنوبي والسلطة
لا يشبه المشهد في الجنوب هذه الأيام، أي مشهد سابق في تاريخه، وربما في تاريخ لبنان الحديث. عدد كبير جداً من المنازل والأبنية السكنية مدمّر. وقوافل طويلة من الشهداء من أبناء القرى، والذين يُشيّع العشرات منهم في كل يوم، محمولين على أكتاف رفاقهم، وعائلاتهم التي عادت لتوّها من رحلة نزوح مريرة. ومع ذلك، بدأ الجنوبيّون أعمال ترميم منازلهم المتضرّرة منذ اليوم الأول، رغم الظروف المستحيلة تقريباً. كما عادت بعض المحالّ التجارية إلى فتح أبوابها، في حين يُعدّ عمّال البناء عدّتهم لورشة إعادة إعمار ستطول لسنوات. لا ترى سلاحاً هنا، ولا مسلّحين؛ كلّ هؤلاء هم أبناء هذه البلدات، وأهل شهدائها. لكن أيضاً، لا دولة هنا، أبداً، ولا جيش لبنانياً، ولا قوى أمن، ولا كهرباء، ولا مياه، ولا شبكة هاتف، ولا عمّال صيانة، للأسبوع الثاني بعد وقف الحرب، على التوالي. والواقع أن أهل هذه المناطق لم يعتادوا يوماً على حضور الدولة الفعلي، وهم الآن لا يتأمّلون أن تهبط عليهم بأمنها ورعايتها وخدماتها، من السماء فجأة. وعندما تهتزّ منازلهم جرّاء التفجيرات المستمرّة التي ينفّذها العدو لمنازل في القرى الحدودية المجاورة، يقول أحدهم بشيء من التندّر: «بكرا بيجي الجيش» (وشو طوّل بكرا؟). لا يكنّ أهل القرى الجنوبية للجيش سوى الاحترام والتقدير، فيما لم تشهد كل السنوات الماضية منذ انتشاره في الجنوب، عقب حرب تموز 2006، إشكالات تُذكر بينه وبين أبناء المنطقة. لكنهم، فقط، يعرفون إسرائيل جيداً، ويدركون - بالتجربة - أن الجيش اللبناني وفقاً لواقعه الحالي والسابق، لا يمكنه مواجهة القوة الغاشمة للعدو، ويعلمون أن ما هو «مسموح به» للجيش من تسليح وانتشار وخطط وبرامج، لا يمكن له أن يردع العدو عن الاعتداء عليهم مجدداً. لكنهم، يأملون - بشيء من «صفاء النية الوطنية» - أن يكون الجيش، بحلّته الجديدة، قادراً على منع اعتداءات الاحتلال في قادم الأيام.
لا يَمتهن أهل الجنوب القتال والحرب. ولا هم يستهوون خوض غمارها كل بضع سنوات، إن وجدوا من يردّها عنهم ويمنع تبعاتها عليهم. كما لا يسترخص الجنوبيون بذل أنفسهم وأموالهم وأرزاقهم، إلا في سبيل حرّيتهم وكرامتهم، ودحر الاحتلال عن أرضهم. ولكنهم يحفظون عن ظهر غيب تاريخهم الحديث، ولا زالوا يعتقدون بشيء من اليقين، أن ما لم يجدوه من حماية ورعاية، منذ مجزرة حولا عام 1948، والاجتياح الأول عام 1978، والثاني والأشمل عام 1982، لن يجدوه اليوم، أو في المدى المنظور. وليس هذا نقصاً في الوطنية، أو خروجاً على الدولة، كما يحلو للبعض وصفه، بل هو «أزمة ثقة» لا يتحمّل مسؤوليتها أهل الجنوب بأي حال، بل الدولة بكل ما مرّ عليها من حكومات ومسؤولين وقادة.
ربّما تكون الدولة اليوم، أمام فرصة سانحة لمعالجة أزمة الثقة تلك، بين الجنوبي والسلطة، في ما يتعلّق بالحماية وتوفير الأمن والحفاظ على الأرض. وحتى ذلك الحين، وبينما ينتظر أهل القرى الحدودية انتهاء مهلة الستين يوماً للعودة إلى قراهم وبيوتهم المدمّرة، وأرضهم التي لا تزال إلى اليوم، تعيثُ فيها جنازير الدبّابات والجرّافات خراباً، وبينما ينام أهل القرى الأخرى في بيوتهم وقد سدّوا النوافذ المحطّمة بالقماش والنايلون، وسكنوا بيوتهم على خرابها، ويفكّرون بمهمات اليوم التالي لاستعادة دورة الحياة من جديد، يُدرك الجميع هنا، أن ثمّة خلف الباب من يحميهم، وإن لم يروه؛ وأنه في اللحظة الصعبة، وحدهم شباب الجنوب، وآخرون يشبهونهم من كل لبنان، سيكونون حيث يجب أن يكونوا، وأن صوت الجنوب سيبقى - بلا رجعة - مقاومة.